بقلم س. ع.

رِسَالَةٌ مِنَ القَاهِرَة

 تصوير م. ص.
تنسيق الأزياء أ. س.
ترجمة خ. ي.

 

منذ بضعة أسابيع، رأيت منشوراً على فايسبوك يتحدّث عن الصحافية والسجينة السياسية سلافة مجدي التي تمّ إطلاق سراحها مؤخراً بعد أشهر من السجن الاحتياطي. نقل المنشور شكوى من عائلتها لأنّها جُرِّدت من ملابسها وجُرّت عارية على أرضية الزنزانة وضُربت بشدة لدرجة أنها بدأت تنزف من مهبلها وتُرِكت دون أي رعاية طبية أثناء احتجازها. لم تفارقني صورة هذه الحادثة لأيام وجعلتني ألتزم الصمت خلال العشاء والمحادثات الرومانسية وحتى في السيارة وفي أمان منزلي الذي يصدُف أن يقع بجوار مركز للشرطة. 

أظنّ أنّ كثيرات من النساء مثلي قد تأقلمنَ مع الفكرة القائلة بأنّ مدى انتشار العنف الجنسي في الفضاءات العامة والخاصة يجعل كتابة نظرة عامة عن الموضوع أمراً معقداً للغاية. 

من البداية قررت أن أتجنب الإقتراب من الموضوع من ناحية “الحقائق والأرقام”. فمعالجة كهذه قد أُدرِجت على موقع “مدى مصر” تحت باب “الإعتداء الجنسي”.[1] لذا أراني أتهيب الخوض في أمر أصبح نقاشاً علنياً طاغياً بدون ضمانات لحياتنا الشخصية والسياسية والعاطفية.

أنتجت كل أنواع المساحات العامة والخاصة حالات من العنف الجنسي الوحشي الموثقة عبر قنوات الميديا، إن كانت في الفنادق الفاخرة أو البيوت الصيفية أو العيادات أو الشوارع أو الاعتصامات و خاصةً في أمكنة الاحتجاز التابعة للدولة. ولهذا فقد أصبح من الضرورة القصوى أن يبقى المرء واعياً يقظاً منخرطاً غاضباً صبوراً متسقاً ومبدئياً في آنٍ واحدٍ وعلى الدوام.
أجلس على الشاطئ لتناول الإفطار مقابل المياه الزرقاء والرجل الذي يضع حقيبته بجواري هو واحد من خمسة رجال متّهمين بالاغتصاب الجماعي الذين تم الإفراج عنهم مؤخراً لقلّة الأدلة بإحدى القضايا الأكثر انتشاراً خلال العامين الماضيين. في غضون ذلك، قضى أصدقاء لي أشهراً طويلةً محتجزين كشهود على تلك القضية، ووجد مارّة محايدون أنفسهم متورّطين بشكل تعسّفي في حملةٍ تتجاوز الأطراف المعنية في القضية بهدف خدمة خطاب سياسي وأخلاقي أكبر.[2]

 إتُّهِم رجل كويري بالتحرش مما أثار ذعراً بين أعضاء مجتمع الميم-عين على وسائل التواصل الاجتماعي خوفاً من عنف الدولة.
 نحن مرهقون.

كيف لنا أن ندّعي أنّ الحكم بالجرم في قضية إعتداءٍ جنسيٍ هو نجاح يُعطِي الإحساس بالإنجاز في حين أنّ الدولة الّتي أصدرت الحكم هي المرتكب الأكبر للعنف الجنسي المُمَنهج؟

هذه الازدواجية المتعالية تجعلنا نتعامل مع المطالبة بالعدالة بالكثير من الخوف والقلق بينما نتساءل أيضاً عن شكل العدالة التي نطالب بها. نحن النساء ندرك أن لدينا بعض النفوذ شرط أن نبقى ضمن خانة الأنثى الحزينة المعيارية الّتي تطلب المساعدة والإنتقام من السلطات المهيمنة. ضمن هذا السياق، تصبح النساء الأخريات والجماعات ذوات الهويات أو التوجهات الجنسية والسياسيّة المختلفة جماعات مُعارضة تستحق العنف الجنسي على يد سلطات ومؤسسات الدولة بحد ذاتها.

إنّ الدولة الّتي تتجلى في الشرطة والهندسة المعمارية الجائرة ونقاط التفتيش المعادية للمثليين والأدبيات القضائية المنحازة ضد النساء والخطاب العام للازدهار المزيف تعلن دخولها إلى عصر جديد حيث يتم بناء عاصمة جديدة مسوّرة في وسط الصحراء. تُقام بنية تحتية جديدة بالكامل تخترق المدينة القديمة لتأمين اتّصالها بالعاصمة الجديدة. أتلقى يومياً مكالمات للإستفسار عن رغبتي في إيداع دفعة أولى لشقّة في العاصمة الإدارية الجديدة. إنّ التوسع في الأراضي القاحلة وإقامة أيقونات جديدة يعني تركيز المزيد من رأس المال وتعني أيضاً تطبيع الخطر في المدينة القديمة كتسويق للبنية الجديدة، اذ لا يمكن للسلطة ان تُروِّج للمدينة الفاضلة الجديدة إلا على حساب خراب وعفونة المدينة القديمة. إنّ الصِّلة بين قلة الثبات والعنف الجنسي والتوسع المُدُني السريع راسخة، إلاّ إنّ الإعلان عن هذه الصلة لا يُسمع بصوتٍ عالٍ إلا في مدن الجنوب العالمي. لذلك تجهد الدولة ذات الإستثمارات النيوليبرالية أن تعزل نفسها عن ظاهرة العنف الجنسي الّتي تدمغ دول العالم الثالث بمحاولتها صقل آلياتها للعدالة الجسدية وعقوبة الإعدام كرادع لمرتكبي الإنتهاكات الجنسية المؤكدة، بينما المحاولات نفسها تعيد إنتاج الظروف الّتي تسبب إنتشار العنف القائم على الجنس والجندر على نطاق أوسع في الوقت عينه.
تفتخر العاصمة الجديدة بوجود مدارس وجامعات ونوادٍ جديدة، فضلاً عن سور كبير يحيط بها ويحتويها. من تتوقع السلطات أن ينتقل إلى البنية الجديدة وماذا سيبقى في العالم القديم؟ ما نوع الانقسامات الّتي سيجلبها هذا الفصل المكاني على الجدل المتأثر بالفروقات الطبقية والجندرية؟ ما هو المستقبل الذي يمكن أن نتوقّعه من دولة تندّد بعاصمتها؟ من المؤكّد أن رحيل النُصُب الحكومية وأجهزة الشرطة والوزرات إلى العاصمة الجديدة سيُسبِّب قحطاً في الموارد والخدمات. قد يوفر التخلي المؤسسيّ فرصة لشريحة صغيرة من التحرر من وكلاء العنف الهيكلي. ومع ازدياد دافع حماية الإرث المُستحدث، قد نُتركُ لوحدنا لنُروّض على أيدي أسوأه.

[1]https://mada31.appspot.com/www.madamasr.com/en/topic/sexual-assault/

[2]https://mada31.appspot.com/www.madamasr.com/en/2020/09/03/feature/politics/friend-of-witness-in-fairmont-case-swept-up-in-backlash-arrests-ordered-detained/