رنا طويل
مِن السَّـرْدِيَـاتِ المَحْذُوفَة ولِذّاتِ المَاضِي
تحرير كالين نصر الله
ترجمه من الإنجليزية رجاء سليم
رنا طويل
تحرير كالين نصر الله
ترجمه من الإنجليزية رجاء سليم
مقتطف من مخطوطة إيروتيكية مصورة من الفترة القاجارية ، منتصف القرن التاسع عشر ، ربما نقشها “محمد علي”.
لوحة زجاجية عكسية في إطار عاكس ، تصور عذراء مع كأس من النبيذ ، قاجار بلاد فارس ، منتصف القرن التاسع عشر. – عبر دار مزادات بونهامز
قضيب طائر يتزاوج مع مهبل طائر. المصدر غير معروف.
الفن المثيرة في القرن التاسع عشر القاجاري. المصدر غير معروف.
استغرقَ الأمرُ مني سبعةَ عشرَ عاماً لمعرفةِ ما هوَ الجنسُ فعلاً. الاعتمادُ على الخيالِ لن يقودَنا إلّا لِما هو بعيدٌ عن الحقيقة، والأفلامُ وثقافةُ “البوب” لا تقدّمُ حتّى تصوراً مقارباً لماهيّة الجنس. كما اتضحَ لي، فإن النّشأةَ في بلدٍ عربيٍّ جيدةً حقّاً في “حمايةِ” النّساءِ منَ التعرّف على حقيقةِ الجنس والجنسانية. ذهبتُ إلى مدرسةٍ للبنات، وكانَ معظمُ كادرِها التدريسيّ منَ النّساء، ولديّ أختٌ واحدةٌ، ولم يَكن متوقعٌ منّي أن أكوّنَ صداقاتٍ معَ الفتيان. لقد كنتُ محاطةً بنساءٍ رائعاتٍ طوالَ حياتي، كلهنَّ عزّزنَ فكرةَ أنّه ليسَ من المسموحِ لي مطلقاً طرحُ أسئلةِ حولَ جَسدي وحياتي الجنسيّة، وكلهنَّ بالتأكيد لم يكنَّ ليُجبنَ عن أيٍّ من أسئلَتي.
تطلب الأمر مني أربع سنوات أخرى لأستجمع الشجاعة وأبدأ بالبحث على جوجل “Google” عن إجابات لبعض أسئلتي. أربع سنوات كاملة من الشعور بالضياع والوحدة قبل أن يخطر ببالي أخيراً أنني ربما لم أكن الشخص الوحيد على وجه الأرض الذي راوده هذا الشعور. بالصدفة البحتة، بعد الخوض في كمية هائلة من الخيالات الجنسية التي تتمحور حول الذكور، صادفت كنزاً بالكاد أستطيع فهمه ولم أصدق أنه موجود: قصص مفصلة عن الحياة الجنسية للمرأة من الجزيرة العربية في العصور الوسطى1. كان أول لقاء لي مع هؤلاء، في ذلك الوقت، من خلال مجموعة من النساء في بغداد في القرن التاسع، والمعروفات باسم متظرّفات، قيل إنهن تخلين عن رفقة الرجال بشكل مؤقت أو دائم بسبب تفضيلهن للجنس المثلي. يقال إنهن شكلن مجموعات وعقدن اجتماعات وترأسن مدارس لتعليم المثليات أفضل السبل لتحقيق المتعة. يُطلق على الطريقة الأكثر لفتاً للانتباه والصادمة لممارسة الجنس المثلي بين النساء في كتاب نزهة الألباب في ما لايوجد في كتاب لشهاب الدين أحمد، “تدليك الزعفران”، وهي في الأساس دليل تفصيلي لوضعية المقص. الاسم مستوحى من مقارنة الفعل الجنسي بالطريقة التي يطحن بها الزعفران على القماش عند صبغه. يوضح الوصف أي الشريكتين تتموضع فوق الأخرى، وكيفية التأكد من أن كلا البظرين مكشوفين للوصول إلى أقصى درجات المتعة، مع توصية بدمج زيت الصفصاف مع عطر المسك واستخدامه كسائل مزلّق.
النساء تتحكمن في متعتهن؟ يعرفن مكامن المتعة والحميمية في أجسادهن؟ بمقدورهن حرمان الرجال بشكل صريح وواضح من الوصول إلى أجسادهن وفضاءهن وإلزامهم باحترام حدودهن؟ بدا هذا تجديفاً على كل المستويات مقارنة بالعالم الساذج والباهت الذي كنت أعيش فيه. ومع ذلك، ها هي، كل الأمثلة في متناول يدي، في متناول الجميع – ولكن بطريقة ما، أنا ومعظم الأشخاص الذين أعرفهن، قد أمضينا حياتنا بأكملها دون أن نسمع أبداً عن هؤلاء النساء الرائعات وإرثهن.
واصلت البحث والتقيت بولّادة بنت المستكفي، ابنة الخليفة الأموي في الأندلس في القرن الحادي عشر، محمد الثالث المستكفي. مارست حريتها المستحقة للأقصى، عاشت كما يحلو لها. لم تكن ثنائية الميل الجنسي علانية فحسب، بل كانت أيضاً متعددة الزوجات. من بين مغامراتها الرومانسية العديدة، يذكر التاريخ أنها وقعت في حب ثلاثة أشخاص في نفس الوقت: ابن زيدون، شاعر الهجاء المعروف، ورجل آخر، ابن عبدوس، وآخرهم وصيفتها، مُهجة. كانت ولّادة امرأة عالية الجرأة، تستضيف صالونات أدبية في منزلها، وهي مناسبة يجتمع فيها الشعراء من جميع الأجناس في نفس المكان، والذي لم يكن تقليدياً في ذلك الوقت لعامة السكان، ولكن ليس للطبقات العليا من المجتمع. كانت هذه الصالونات مكاناً للموسيقى الحية والرقص والشرب وتبادل الشعر.
إلى جانب شخصيتها الواثقة والتي تتجلى بوضوح في هذا الشطر المطرز على ثوبها:
أنا واللهِ أصلحُ للمعـالي
وأمشي مشيتي وأتيـه تيهاً
أمكّنُ عاشقي من صحنِ خدِي
وأمنحُ قُبلتي من يشتهيها
يتطرق شِعر ولّادة للجنس بمهارة لا مثيل لها اليوم، خاصة باللغة العربية. عندما تلوعت من حب ابن زيدون، عبرت عن ضيقها من معايرته لها بتعددية ميولها الجنسية بالأبيات التالية:
إنّ اِبن زيدون على فضلهِ
يغتابني ظلماً ولا ذنبَ لي
يلحظُني شزراً إذا جئتهُ
كأنّني جئتُ لأخصي علي
إنّ ابـن زيـدون له فـقـحةٌ
تـعـشـقُ قـضـبـانَ السراويلِ
لَو أبصرت أيراً على نخلةٍ
صارَت منَ الطيرِ الأبابيلِ
مع أن هجائها لمثلية ابن زيدون هي بالتأكيد – وحرفياً – ضرب تحت الحزام، وليست أكثر أشكال الرد جديرة بالثناء، لا سيما بالنظر إلى شخصية ولّادة نفسها، إلا أن ما هو جدير بالملاحظة في هذه الأبيات هو إتقانها للاستعارة. إن مقارنة ولادة بين شهية ابن زيدون لغيره من الرجال بشهية الطيور الجبانة التي تهاجم ثمار النخيل هي إشارة إلى جزيرة الواق واق التي تقول الأسطورة إنها موطن الأشجار التي تحمل النساء الناضجات لممارسة الجنس مع من يفصلهن عن الشجرة. هذه الأبيات قاسية ومتقنة على حد سواء لتحديها للخيال الذكوري السائد والمتمثل في تشييء النساء وإعادة صياغتها وتوجيهها للرجال؛ صوّرت القضيب كفاكهة ناضجة، جاهزة للقطاف والالتهام، دون تراضي أو احترام أو متعة متبادلة. أشاد أقرانها بأبيات شعرها فائقة الذكاء، مما يشير إلى أنها لقيت استحسانًا من قبل جمهورها.
بعد رفضي الشديد لتشييء الذكور، تعرفت على نزهون الغرناطية بنت القليعية، التي كانت نقيض ولادة في الطبقة الاجتماعية، لكنها مساوية لها في الروح والتوجه. كانت نزهون قينة من القرن الثاني عشر. قيان، جمع القينه، عبارة عن مجموعة معينة من النساء اللواتي ينتمين إلى أسر القضاء، لكن تم استعبادهن وملكيتهن وشرائهن وبيعهن. وضعهن كمملوكات حرمهن من الحقوق الأساسية، مثل التملك والحماية القانونية التي يمكن للمرأة الحرة الوصول إليها. كما حُرمن من التمتع بالصيت والسمعة التي يتمتع بها أهل البيوت التي يقمن فيها. غالباً ما كانت القينة تتلقى نفس التعليم الذي يحصل عليه الرجال، على الأقل حتى سن الثانية عشرة، قبل أن يأخذ تعليمهن منحى آخر متعلق بالترفيه كالغناء والرقص والعزف على الآلات وكتابة الشعر. أتاح التعليم للقينة أن تكون أكثر قرباً وتأثيراً وفتنة من النساء الحرات، ولكن المعزولات في ذلك الوقت، وهو أمر بالغ الأهمية لأدوارهن الاجتماعية. على الرغم من أن القيان ينتهي بهن الأمر كمحظيات، إلا أن دورهن الرئيسي لم يكن جنسياً، بل كان يتمحور حول رفع قيمة مالكهن ومكانته الاجتماعية من خلال التباهي بمواهب محظياته. كانت الدوائر الاجتماعية في شبه الجزيرة العربية في العصور الوسطى تقدر الذكاء والبراعة الشعرية. كان لدى معظم الحكام ميل إلى البديهة السريعة والمناظرات الذكية والحوارات والردود اللماحة، ولكون القينة بارعة بشكل استثنائي في تقديم هذه الردود السريعة باتت شخصية مميزة ويصعب نسيانها، وبالتالي ارتفعت “قيمتها في السوق” إلى حد كبير. لذلك، غالباً ما كتبت نزهون والقيان شعراً صريحاً، يفاخرن بأجسادهن ونشاطهن الجنسي، وذلك لزيادة الرغبة بهن.
رداً على المخزومي، الشاعر الأندلسي، الذي وصف نزهون بأنها “عاهرة شبقة […] يفيض مهبلها بالسوائل”، قالت نزهون بسطر واحد إنها ولرغبتها الشديدة في القضيب، معززة سلطتها الشخصية على خياراتها الجنسية، تميل أيضاً إلى الاحتفاظ به لنفسها، كتهديد مبطن بالخصي.
لحسن الحظ، نزهون بعيدة كل البعد عن كونها المرأة الوحيدة التي جاهرت برغباتها وميولها الجنسية. هناك الكثير من القصص عن شخصيات متنوعة من مختلف الميول الجنسية، تتناول النقاشات الحية التي كانت تدور في مجالس الحكام، والتي يتفاخر خلالها كل شخص بمتعته الجنسية. بينما يواصل الرجال اليوم استعراض هذه العضلة المقارنة، فإن ما أوقفني في مساراتي هو إدراك أن النساء أيضاً لديهن منصة للكشف عن تجاربهن الجنسية والدفاع عنها وأحيانًا تأليهها، بغض النظر عما تتكون منه. قد لا نعرف أبداً على وجه اليقين، ولكن يبدو أنه لم يكن هناك عقاب على هذا الاسترداد العلني لمتعتهن وأنوثتهن؛ كانوا (بحق) مستحقات لها. في ضوء الحملات القمعية الأخيرة على تجمعات أفراد مجتمع الميم-عين وأي أماكن “تروج للانحلال الجنسي” في لبنان والدول العربية الأخرى، يبدو من التنافر بشكل خاص، ولكن من المريح معرفة أنه منذ وقت ليس ببعيد، في ركننا الصغير من الأرض، قد تكون ممارسة الجنس مع نساء أخريات أكثر قبولًا اجتماعياً من الجنس بين الجنسين، كما هو موضح في هذه الأبيات2:
فكم سحقنا، أختاه تسعين حجّة
أسرّ وأخفى من دخول الفياشل
ومن حبَل يُرضي العدوّ ظهوره
وأعظم من هذا ملام العواذل
وليس علينا الحد في السحقِ كالزنا
وإن كان أشهى منه عند القوابل
عندما نعي أن هذا هو تاريخنا، وأننا نتاج تجارب وملذات هؤلاء النساء القويات الواثقات، فإن تجنبنا الحالي لكل المواضيع المتعلقة بالجنس يصبح أكثر عبثية. ومع ذلك، وجدت بعض العزاء والتشابه تاريخياً بين نشأتي وبين حياة نساء الطبقة المتوسطة من تلك الحقبة. امرأة من الطبقة المتوسطة تلقت تربية عائلية جيدة، وكان متوقعاً منها أن تكون ملتزمة دينياً وربة منزل في المقام الأول. كان علاقاتها الاجتماعية مع الجنس الآخر محدودة حيث تعلمت ومارست أنشطتها ضمن محيط من نساء العائلة المنفصلات تماماً عن الذكور في محيطهن. لا يمكن لنساء هذه الطبقة تكوين صداقات من خارج الأسرة الكبيرة إلا في أماكن محدودة ومقبولة اجتماعياً، مثل الحمّامات وحفلات الزفاف والجنازات، أو الذهاب إلى السوق – حينها تم إقصاء نساء الطبقة المتوسطة من الانخراط بالأنشطة الاجتماعية المتنوعة بحرية.
في حين أن حياتي ونشأتي لم تكن مقيدة ومحصورة، إلا أن الجانب الإيجابي لحياتهن على ما يبدو، والذي فاتني، كان القرب من النساء الأخريات اللائي كن يتحدثن بصوت عالٍ عن تجاربهن ومعرفتهن. كانت المثلية الجنسية قبل الزواج و”النعيم” الجنسي في إطار الزوجية، وحتى النشاط الجنسي خارج إطار الزواج، كلها موضوعات تتناولها المحادثات في شبه الجزيرة العربية في العصور الوسطى. من المسلّم به أن هذا قد يرجع إلى حقيقة أن المرأة لم يكن لديها الكثير لتتطلع إليه إلى جانب تحقيق الرضا الجنسي وتوفيره، وهو بالتأكيد ليس شيئا يقدس. ومع ذلك، هناك درس يمكن تعلمه من الفتيات والنساء اللواتي يعبرن عن نشاطهن الجنسي، ويعرفن أجسادهن، هو الاعتراف بأن إشباع الرغبة هو من حقهن. تتناقض طريقة الطرح هذه مع عدد لا يحصى من النساء الشابات في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اليوم، اللائي في غمضة عين وبدون رغبة منهن، ينتقلن من قضاء حياتهن بأكملها في الدفاع عن “فضائهن” وعذريتهن إلى النوم مع رجل مُنعوا من التعامل معه اجتماعياً حتى أصبح زوجاً لهن. التنافر الذي يخلقه هذا الواقع يخلف ندوباً مخيفة، حيث تحرم مشاركة هذه التجارب، المجتمع من الشعور بالراحة ووحدة الحال، وذلك ببساطة لأن مناقشة الحياة الجنسية من المحرمات بل وحتى خطرة على بعض النساء اليوم.
كان المجتمع العربي في العصور الوسطى بالتأكيد بعيداً عن الكمال، وهذه ليست محاولة لإضفاء الطابع الرومانسي على الماضي على أنه متفوق على حاضرنا. هذه مجرد دعوة للمجتمع – مجتمع من النساء لإزالة الغموض عن النسائية، ويمكّن من مواجهة المعلومات المضللة، والنقد الذي لا أساس له، والاستغلال. إن مجتمعاً متكاتفاً من النساء يمكنه مواجهة التصورات الأبوية الوهمية المتمثلة في العداء والغيرة والمنافسة بين النساء، والتي تسبب الانقسام ولا تخدم سوى أجندة لمزيد من الحرمان من حقوق المرأة.
أهمية تذكر هؤلاء النساء من تاريخنا بأسمائهن هو نقلهن إلى موقع السلطة. إنه للإقرار بأنهن أعطين صوتاً لمجموعة من المشاعر والأحاسيس المشتركة بين البشر حول العالم، والتي جعلنا الاستعمار والنظام الأبوي نعتقد أنها فشل شخصي وفردي. تحتوي أبيات هؤلاء النساء على الكثير من المقاومة والسلطة الشخصية والقوة. حقيقة أنه تم إهمالهن وتغييبهن من الروايات التاريخية الكنسية وتعزيز السرديات والتخيلات الذكورية، هي شهادة على مدى القوة التي كانت لديهن، ومقدار ما يمكن أن تكسبه النساء اليوم من خلال المغامرة على طريق استعادة حقوقهن وأصواتهن الحقيقة.
في حين أن إرث التمكين الجنسي للإناث في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يبدو غريباً تماماً بالنسبة لنا اليوم، ومهما كان الشكل الذي يتخذه، يمكن أن يعرض النساء لخطر يهدد حياتهن، فإن سرد هذه التواريخ على أنها دعوات للمجتمع قد يمنح النساء على الأقل مساحة ليجدن طريقهن إلى أنفسهن معاً. هناك قوة تكمن في تحصيل معرفتنا بأيدينا، وهناك الكثير من القوة في استعادة سعادتنا.
مقتطف من مخطوطة إيروتيكية مصورة من الفترة القاجارية ، منتصف القرن التاسع عشر. – عبر دار مزادات دويل
مقتطف من مخطوطة إيروتيكية مصورة من الفترة القاجارية ، منتصف القرن التاسع عشر.
تصوير قاجاري من أوائل القرن التاسع عشر لزوجين شابين يمارسان الحب.
لوحة مصغرة تظهر زوجين فارسيين يتزاوجان.