بقلم ڤي بدعان
تصوير أوغستين هيرنانديز

بُسطَارٌ نَبَاتِيّ: تَأَمُّل شَخصِيّ وسِيَاسِيّ في السِّيَادَة الغِذَائِيَّة والاستِعمَار الاستيِطَانيّ

ترجمه من الإنجليزية رجا سليم
تحرير (العربي) ريّان عبد الخالق
تحرير (الإنجليزي) كالين نصر الله

أكتب هذا النص كشخص كان ملتزماً بالنباتية كمبداً أخلاقي لمدة ست سنوات. انتقلت إلى النظام النباتي أثناء فترة دراستي لنيل درجة الدكتوراه في الولايات المتحدة، بعد اكتشاف فظاعة عملية إنتاج اللحوم ومنتجات الألبان هناك. أنا فلسطينية منحدرة من سلالة من الرعاة والمزارعين والصيادين. وبعد عودتي الحالية إلى محيطي الثقافي، بدأت أعيد النظر بجدية في النباتية من منظور أخلاقي وثقافي وعملي. لم يتضاءل التزامي تجاه الرفق بالحيوانات والكوكب، لكنه بات أكثر دقة. لقد قمت تدريجياً بإدخال البيض والمزيد من منتجات الألبان إلى نظامي الغذائي، كما أني آكل السمك من وقت لآخر. كان علي التجرّد من الشعور بالذنب المتأصل في ممارستي النباتية وتفكيك ما يعنيه تناول الطعام من الأرض والاتصال معها. السيادة الغذائية هي ممارسة تحررية، وتأتي في العديد من الأشكال والطرق، وكلها متجذرة في الثقافة والأرض. هذا النص هو تأمل شخصي وسياسي حول السيادة الغذائية والاستعمار الاستيطاني.

تعد سرقة الأراضي والموارد والغذاء سمة أساسية لآلية الاستعمار الاستيطاني. قبل أربع سنوات، وصفت قوات الاحتلال الإسرائيلية نفسها بأنها “الجيش الأكثر نباتية في العالم”. يرتدون القبعات الخالية من الصوف والأحذية النباتية (التي يستخدمونها للدوس على المدنيين/ات الفلسطينيين/ات وركلهم وقتلهم) ويروجون للأطعمة المحرفة والمسروقة، مثل الحمص والفلافل، كأطباق رئيسية في مطابخهم (الدموية). تهدف هذه الحملة الدعائية إلى تصوير واحدة من أكثر القوات المسلحة وحشية  واللا إنسانية في العالم على أنها واحدة من أكثر القوات إنسانية. لكن إنسانية تجاه من؟ الحيوانات – التي تتفوق على الفلسطينيين/ات، من منظور أخلاقيات الرعاية. تصوغ قوات الاحتلال واجهة للاستدامة وحقوق الحيوان، لكنّها عملياً غسل أخضر للإبادة. الغسل الأخضر أو التخصير الزائف  هو عملية الاستفادة من الممارسات الواعية بيئياً، مثل النباتية، لأغراض أخرى غير الحفاظ على مصلحة كوكبنا بحيواناته ونباتاته. وتشمل هذه الدوافع الخفية الربح، وفي حالة جيش الاحتلال، رسم صورة أخلاقية تمحي تدميرهم للحياة الفلسطينية وسرقتهم لأراضي الفلسطينيين/ات ومواردهم وطعامهم. 

جادل/ت العديد من الباحثين/ات بأن تكتيكات الغسل الأخضر، بما في ذلك الطاقة المتجددة والتكنولوجيا الزراعية، يتم استخدامها من قبل المستعمر كأدوات لسرقة الأراضي ونزع ملكيتها. ومن الأمثلة البارزة على ذلك كيف طورت شركات التكنولوجيا الزراعية الإسرائيلية أنظمة الري “الذكية”، التي يتم تقديمها كحل مبتكر للزراعة المستدامة وحماية المحاصيل-وقد تم تطوير هذه التقنيات الذكية واختبارها وتنفيذها على الأراضي المحتلة في الضفة الغربية الفلسطينية ومرتفعات الجولان السورية. وقد أدى هذا الارتباط الوثيق بين الاحتلال والغسل الأخضر إلى تآكل الأراضي الزراعية الفلسطينية  وتدمير سبل عيش عدد لا يحصى من المزارعين الفلسطينيين. ويتم استغلال المزارعون الفلسطينيون الذين يقررون العمل في مشاريع التكنولوجيا الزراعية الإسرائيلية هذه. كما أن الاحتلال يعيق تطور مثل هذه المشاريع “الخضراء” في فلسطين، والدليل على ذلك هو تدميره للعديد من مشاريع التكنولوجيا الزراعية في غزة وأماكن أخرى. ووصل الحد بالمستعمر بأن يسلّح تقنياته الزراعية، حيث قام برش المواد الكيميائية في محيط غزة لتدمير المحاصيل الفلسطينية.

و بعد فإن مواظبة الاحتلال على تطوير التقنيات الخضراء على مدى العقدين الماضيين ملحوق برغبته في المنافسة مع الدول المجاورة المنتجة للنفط من المنطقة العربية وإيران وأخذ مكانتهم كموردين عالميين للطاقة والتكنولوجيا الخضراء. هذا من شأنه أن يغذي المصالح الجيوسياسية ويبرز قوة الشمال العالمي (الذي ينتمي إليه الكيان ولكنه يعمل أيضاً كوكيل) في السياق الاستعماري العالمي الجديد. وبالتوازي مع ذلك، يحجب الاحتلال ويصادر بشكل منهجي أي مشاريع للطاقة الشمسية أو الخضراء في فلسطين، وبالتالي يحتكر إنتاج الطاقة الخضراء في فلسطين التاريخية. 

باختصار، إن تكتيكات الغسل الأخضر للآلية الاستعمارية الاستيطانية تحمل ثلاثة جوانب: بناء خطاب إنساني مؤثر عن تعاطي قوات الاحتلال مع حقوق الحيوان، والنهوض بالتكنولوجيا الزراعية والحلول الخضراء للزراعة من خلال سرقة الأراضي والعمالة الفلسطينية (والسورية)، وتطوير الطاقة الخضراء مع خنق مشاريع الاستدامة الفلسطينية. يصحب ذلك الاستيلاء المستمر على الأراضي وتدمير الممارسات الزراعية الفلسطينة والترويج للأطعمة المسروقة (مثل الزيتون والتمر والليمون) كمنتجات إسرائيلية.

لا تعمل قوات الاحتلال والجهاز الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي بمفردهما: إنهما جزء من جهاز استعماري (جديد) أكبر، يقوده نزف الموارد، وادعاء القيم، وتكتيكات الغسل الأخضر. يتزايد استخدام الغسل الأخضر كأداة رأسمالية وإمبريالية عالمية هدفها الإخضاع المستمر للمستعمرات السابقة والحالية. ولنعود الآن إلى النقطة الرئيسية للنباتية كخطاب رأسمالي استعماري.

لماذا يعد النظام
النباتي السائد إشكالياً؟

يوصف الانتقال إلى النباتية في الخطاب النباتي السائد بأنه طريق لحياة أكثر استدامة، لكونها آلية يمكننا من خلالها تقليل ضررنا البيئي. ولكن هل الحمية النباتية، و طريقة اعتمادها في سياقات الشمال العالمي، حقاً مستدامة؟ قد تكون الإجابة السطحية هي نعم، تناول الأطعمة النباتية أكثر استدامة من تناول الوجبات الغذائية الغنية باللحوم لأنها ترتبط بانبعاثات أقل من غازات الاحتباس الحراري. ولكن إذا تعمقنا قليلاً في هذا الموضوع، نجد أن الشركات في الشمال العالمي قامت باستحداث بدائل غذائية نباتية للحوم. يتم إنتاج هذه البدائل في مصانع (كبيرة نسبياً). تشتري الشركات النباتات التي يتم إنتاجها من خلال الشركات الزراعية الاحتكارية الضخمة، والتي تعتمد بشكل كبير على الزراعة الأحادية (إنتاج فول الصويا، على سبيل المثال)، وهو أمر غير مستدام وعنيف أيضاً: تساهم هذه الطرق الزراعية في تآكل التربة وتلوث المياه والقضاء على الممارسات الزراعية التقليدية والمحلية. ولدينا مثال موازٍ في اقتلاع الكيان الإسرائيلي الممنهج للأشجار المحلية الفلسطينية، مثل البلوط، وبعض  المحاصيل مثل الزيتون والتين، واستبدالها بأشجار الصنوبر الأوروبية التي تضر  بالبيئة المحلية بشدة. ناهيكمن عن ظروف العمل في المصانع والشركات الكبيرة، والتي تهدف إلى الربح في المقام الأول ولكنها تسوق نفسها على أنها مستدامة بيئياً. هل هناك ما يسمى بالإنتاج الأخلاقي والاستهلاك الأخلاقي في ظل الرأسمالية؟ 

هناك أسطورة أخرى يجب نبذها من النظم الغذائية النباتية وهي فكرة أن الانتقال إلى الأطعمة النباتية سينقذ الكوكب ويوقف الأزمة المناخية. تكمن مشكلة هذا الخطاب في أنه يضع مسؤولية “إنقاذ كوكبنا” على عاتق الأفراد، دون محاسبة اللاعبين الرئيسيين المسؤولين عن تدهور مناخنا ومحيطنا الحيوي – كالصناعات الكبيرة، مثل صناعات السيارات وشركات النفط وصناعات قطع الأشجار والزراعة الضخمة التي تدمر الغابات المطيرة، إلى جانب مشاريع التنمية المدنية غير المستدامة. تمتلك هذه الصناعات الرئيسية رأس المال والسلطة والنفوذ السياسي، وتستمر في إفساد الأرض دون أي تداعيات – وغالباً مع الإعفاءات الضريبية. لنأخذ على سبيل المثال المجمع الصناعي العسكري لقوات الاحتلال الإسرائيلي، الذي يستخدم الأراضي الفلسطينية والفلسطينيين/ات كأدوات لاختبار الأسلحة: فهو أحد أكبر منتجي ومصدري الأسلحة في العالم ويساهم بشكل كبير في التلوث العالمي والأزمة المناخية. إن صورة “الجيش الأكثر نباتية في العالم” هي محاولة واعية لغسل العنف الذي ترتكبه قوات دفاع الكيان الإسرائيلي. كما أن إلقاء عبء مسؤولية تدهور المناخ على الخيارات الغذائية الفردية يفاقم التفاوت الاقتصادي القائم. على سبيل المثال، هل العامل في قرية ريفية صغيرة في فلسطين، الذي يتغدّى مسخن الدجاج مرة واحدة في الأسبوع، مسؤول بنفس القدر عن الأضرار التي لحقت بالكوكب كملياردير يطير بطائرة خاصة كل يوم؟ 

تصوغ قوات الاحتلال واجهة للاستدامة وحقوق الحيوان، لكنّها عملياً غسل أخضر للإبادة.

يتعرض المزارعون والعمال الفلسطينيون لقيود على الحركة، ومصادرة للأراضي وعنف من قبل المستوطنين، الى جانب القيود المفروضة على الوصول إلى المياه، ومحدودية الوصول إلى الأسواق المحلية والدولية، وظروف العمل الاستغلالية. ينخرط الكيان الاستعماري الاستيطاني،بصحبة جيشه “النباتي”، في حرب طبقية يومية ضد العمال الفلسطينيين، وخاصة المزارعين.   ويثبت ذلك أيضاً أن منظور الاستدامة يبقى ضعيفاً بدون نقد طبقي. 

وعليه، فإنه ليس من الضروري بأن يكون النظام الغذائي النباتي أكثر استدامة في حد ذاته، كما أنه ليس أكثر أخلاقية. المشكلة أكثر تعقيداً، وتتطلب نقداً دقيقاً. 

هناك قضية شائكة للغاية تبرز في الخطاب العالمي حول النباتية وهي الأخلاقيات التي ينخرط فيها النباتيون الغربيون (المستغربون) للترويج لأساليب حياتهم على أنها متفوقة أخلاقياً. وهذا يساهم في شيطنة ساذجة للعديد من الممارسات الغذائية والزراعية التقليدية في الجنوب العالمي، متجاهلاً أن هذه الممارسات، سواء كانت نباتية أم لا، هي في الواقع أكثر تجذّراً في الأرض و تناغماً معها. على سبيل المثال، إن معظم استهلاك سكان القرى في لبنان وفلسطين وسوريا هو الأطعمة النباتية، حيث يتم تقديم اللحوم مرة أو مرتين في الأسبوع في التجمعات العائلية. المطبخ المشرقي غني بالنباتات ويعتمد على المنتجات الموسمية. حتى البيض ومنتجات الألبان يتم إنتاجها على نطاق أضيق بكثير مقارنة بمزارع الألبان الضخمة في الدول الصناعية والظروف غير الإنسانية التي تنطوي عليها. فمن السهل (نسبياً) العثور على مزارع البيض التي تمتنع عن قتل ذكور الدجاج، والمزارع الصغيرة للحصول على منتجات الألبان في جميع أنحاء بلاد الشام. غالباً ما يعرف المزارعون/ات أسماء الحيوانات في مزارعهم؛ فهم مرتبطون بهم، ويقضون وقتاً معهم، ويعتنون بهم بالفعل. يترافق استهلاك المنتجات الحيوانية مع الامتنان للحيوانات كما ويتم بشكل معتدل. الصيد هو أيضاً ممارسة ثقافية متجذرة. مزارع الأسماك ليست شائعة في بلاد الشام، وخاصة في البلدات والمدن الساحلية. في ثقافاتنا، غالباً ما يتم استهلاك أسماك الصيد الطازجة ، من البحر إلى المائدة. وهذا يتناقض بشدة مع ممارسات تربية الأسماك التي تلحق الضرر بالمسطحات المائية وتستخدم أدوات الإنتاج الضخم غير الإنسانية.

على هذا النحو، و في ظل الرأسمالية النيوليبرالية، يجب أن يعد إنتاج الغذاء إشكالياً. الاستدامة كممارسة لا تتعلق فقط باختيار الأطعمة النباتية مقابل الأطعمة غير النباتية، بل إنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالطرق التي يتم بها إنتاج طعامنا. يعد الإنتاج الغذائي النباتي أو غير النباتي المتجذر في استنزاف الموارد والإنتاجية المفرطة أحد العوامل العديدة التي تضر ببيئتنا. إن تأطير النباتية الغربية (وهي التيار السائد) كأرضية أخلاقية نموذجية دون دراسة الأسباب الجذرية لتغير المناخ يمكن أن يرسخ أيضاً السردية الاستعمارية حول الغذاء – الغربيون المستنيرون الذين يتحملون المسؤولية الشخصية لإنقاذ الأرض مقابل “الآخرين” غير المتحضرين الذين يحتاجون إلى من يعلمّهم كيفية تناول الطعام بشكل أفضل و أكثر إخضراراً. وما يزيد من سخرية الأمر أن السكان الذين يعيشون في الأماكن المستعمرة سابقاً أو حالياً لديهم أنظمة غذائية متنوعة وغنية ومستدامة منصهرة في ثقافاتهم – مما يقودني إلى نقطتي الأخيرة. 

بالنسبة لي، فإن الوسيلة لجعل النباتية (أو أي ممارسة غذائية أخرى) أخلاقية حقاً هي نزع الصبغة الاستعمارية عن عاداتنا الغذائية من خلال إعادة إحياء جذورنا -أي إضفاء الصفة المحلية على الطعام الذي نأكله، والطريقة التي ننتج بها هذا الطعام، وممارساتنا الزراعية. تتمتع مجتمعات الشعوب الأصلية في جميع أنحاء العالم بصلات روحية ومادية قوية بأراضيها ونظمها الإيكولوجية. يزرعون الأرض بشكل مستدام ويعاملون الحيوانات برفق وإنسانية، ويتعايشون مع النباتات والحيوانات المحلية. لقد دمر الاستعمار هذه الممارسات الغذائية المحلية وعرّض السيادة الغذائية للخطر. للمجتمعات الأصلية حق لا ينزع في تحديد نظمها الغذائية واستصلاح أراضيها واستراتيجيات إنتاج الأغذية وتوزيعها، نباتية كانت أم لا، لكنها، قبل كل شيء، مستدامة. يجب أن نقف بوجه المستعمر الذي سرق أرضنا ومواردنا وطعامنا، ونغرس أنفسنا بقوة في الأرض – تلك التي  سكنّاها وأحببناها ورعيناها وأكلنا من خيراتها منذ الأزل.

المراجع:

الصالحي, ع. ع. (2021). السيادة الغذائيّة الوطنيّة الفلسطينيّة في ظل السياق الاستعماري. الدالية.

Figueroa-Helland, L., Thomas, C., & Aguilera, A. P. (2018). Decolonizing food systems: Food sovereignty, indigenous revitalization, and agroecology as counter-hegemonic movements. Perspectives on Global Development and Technology, 17(1-2), 173-201.

Kuhnlein, H. V., & Receveur, O. (1996). Dietary change and traditional food systems of indigenous peoples. Annual Review of Nnutrition, 16(1), 417-442.

Polish, J. (2016). Decolonizing veganism: On resisting vegan whiteness and racism. In The Palgrave Macmillan Animal Ethics Series (pp. 373-391).

Sexton, A. E., Garnett, T., & Lorimer, J. (2022). Vegan food geographies and the rise of Big Veganism. Progress in Human Geography, 46(2), 605-628.

يتمحور أوغستين هيرنانديز حول التشخيص وتصوير الأشياء اليومية التي تتجلى فيها مفاهيم الجمال والهوية والهشاشة. عمله متأثر ببيئته ومستوحى من تراثه وهويته الكويرية. يستكشف من خلال عمله، حدود عالم مفاهيمي خيالي؛ ومساحة لمن يبحث عن مهرب من الواقع.