كلمات نيكول نمري
بصريات سما بيضون

يَا بِلادُ الشَّام، مَتَى نِهَايَةُ الصِّيَام؟

ترجمه من الإنجليزية رجا سليم
تحرير (العربي) ريّان عبد الخالق
تحرير (الإنجليزي) كالين نصر الله

تتحدث تيتا إلى يسوع وكأنه جالس على الأريكة معها، وتميل إلى حديقتها مثلما يميل الرب لقطيعه، وتطهو مثل خالق. في الحصن، البلدة الصغيرة شمالي الأردن التي تنتمي إليها، كانت تيتا تستيقظ قبل الفجر وتبدأ في صنع الخبز في فرن الطابون بينما بقية أفراد الأسرة نيام. حرصت دوماُ على أن يكون الفطور جاهزاً لعائلتها فور استيقاظهم، تماماً كما فعلن أسلافها قبلها بآلاف السنين. بحلول الوقت الذي كانت فيه في الحادية عشرة من عمرها، كانت قد بدأت في رعاية إخوتها كما تفعل الأم، متأرجحة بين دوري الطفلة والأم: لقد لعبت كما يلعب الأطفال، لكنها كانت تطبخ وتنظف وتخيط وتلعب دور المضيفة إلى جانب والدتها كلما أتاهم ضيوف.

ومثل لعنة قديمة، أكلت تيتا خبزها، حرفياً ومجازياً، بعرق جبينها. اختصرت طفولتها، وزواجها أيضاً، وكرست حياتها لتربية الأشقاء، ثم الأطفال، وفي بعض الأحيان، حتى الأحفاد. لم ترغب أبداً في الزواج مجدداً؛ أرادت أن تصبح راهبة وتعيش في التلال مع اللّٰه. 

بعد أيلول الأسود، اندلعت حرب أهلية بين منظمة التحرير الفلسطينية والمملكة الهاشمية، قامت تيتا، وجدو، بحزم حقائب والدي وإخوته الثلاثة وانتقلوا إلى الولايات المتحدة حيث سيمتلكون متجراً للحوم في الجانب الجنوبي الشرقي من إنديانابوليس. في الواقع، لقد كان كيساً من الدقيق حمله والد تيتا (جدي الأكبر)، فوق رأسه لأميال بعد الاضطرابات المدنية في أيلول الأسود. قالت إنه أخبرها أنه لم يكن متأكداً من أنهم سيبقون على قيد الحياة، وأنه أحضر ما يمكن أن تحمله قدماهه. كانت صناعة الخبز ثمينة ؛كان الخبز محرك الثورات.

على الرغم من أن الأردن فقد السيطرة على الضفة الغربية لصالح قوات الاحتلال في عام 1967 خلال حرب الستة أيام، إلا أن النظام الملكي لم يتخلّ رسمياً عن مطالباته بالضفة الغربية حتى عام 1988، أي بعد عام من الانتفاضة. في غضون عام واحد، شكلوا مجلس التعاون العربي مع العراق ومصر واليمن كمجموعة ضغط جماعية لطلب الأموال من دول الخليج، وكانت إحدى الخطوات الأولى التي اتخذت نحو إعادة المواءمة الاقتصادية هي الخضوع لبرنامج التقشف الذي يفرضه صندوق النقد الدولي. في عام 1989، رفعت الحكومة الدعم عن المواد الغذائية والسلع المشتركة الأخرى، كالوقود، مما أدى إلى أعمال شغب شديدة في أجزاء من الأردن ما أفضى إلى إقالة رئيس الوزراء، ومن ثم إلى ليبرالية أكبر داخل الأردن. تم رفع الأحكام العرفية، وتخفيف الرقابة في وسائل الإعلام، وفتحت الانتخابات البرلمانية لأول مرة منذ 22 عاماً، مما أدخل الأردن في مستويات جديدة من الديمقراطية داخل النظام الملكي1.

بعد قرابة عقد من الزمن، فرضت الحكومة الأردنية برنامجاً آخر لإعادة الهيكلة الاقتصادية، خضوعاً آخر لصندوق النقد الدولي، من خلال رفع الدعم عن شيء واحد فقط: القمح. بعد أن رفعت الحكومة الدعم عن القمح، تضاعف سعر الخبز لكل رغيف، وما تبع ذلك كان بعض أعمال الشغب الأكثر تطرفاً التي شهدها الأردن – قال أحد الطلاب الذين احتجوا في الكرك في ذلك الوقت: “نحن بحاجة إلى ثورة لأننا بحاجة إلى الخبز”2

في تلك السنوات السبع بين الجولة الأولى والثانية من أعمال الشغب، شرّعت الحكومة الأردنية بالفعل ديمقراطية محدودة، لكنها وقعت أيضاً معاهدة سلام مثيرة للجدل مع الكيان الصهيوني، تاركة الأردنيين/ات في حال تساءل عما إذا كان هذا التحرك نحو “السلام” يستحق كل هذا العناء. أراد الناس من أجل خبزهم اليومي – الروحي والفعلي – أن يهضموا هذه المعاهدة البغيضة، والتي بدونها، شعر معظمهم/ن أن الثمن كان باهظاً.

على الرغم من أن الجولة الأولى من أعمال الشغب في عام 1989 جلبت العديد من التغييرات التي دفعت الأمة إلى الأمام، إلا أن الحقبة التي تلت أعمال الشغب الثانية كانت أقل تحرراً بشكل ملحوظ. تم قمع الاحتجاجات بقبضة حديدية، وشددت الرقابة أكثر من أي وقت مضى. بدأت ملامح شبه انقلاب تظهر مرة أخرى في عام 2021، في نفس المدن التي اندلعت فيها أعمال الشغب لأول مرة في الثمانينيات والتسعينيات، ولكن تم سحقها واسكاتها بسرعة مع تغطية مخزية في الأخبار المحلية أو الوطنية. اعتبر العديد من الناس أنّ مقايضة الرقابة الأمنية بالاستقرار كانت مستحقة. يبدو أن التكهنات حول “ماذا لو” والمسارات التي لم يتم اتخاذها قد وصفت بالإجماع بأنها غير مثمرة حيث أن الوضع العام الحالي قلّما يمكن وصفه بالمستقر. غير انّنا مررنا بوقت كنّا غير قلقين فيه من التدهور نحو التقشف.

تم العثور على أقدم توثيق للخبز في العالم في الصحراء السوداء في شمال شرق الأردن منذ أكثر من 14400 عام.

كان الأردن تاريخياً جزءاً من الهلال الخصيب، وهي منطقة تم استعمارها من إمبراطورية إلى أخرى بسبب تربتها الخصبة ومناخها المعتدل، و قمحها الوفير. تم العثور على أقدم توثيق للخبز في العالم في الصحراء السوداء في شمال شرق الأردن منذ أكثر من 14400 عام. ًكنتيجة مباشرة للاستعمار أولاً و قيود صندوق النقد الدولي ثانياً، أصبح الأردنيون/ات مجبرين على استيراد القمح الأبيض بدلاً من القمح القاسي بسبب الفرق الهائل في الأسعار.  كما انّه أرخص لهم بكثير من حصاد القمح واستخدام مطحنة حجرية، ويجدر بالذكر أنّ القمح الأبيض فقط مدعوماً. يبدو أن الحبوب التراثية قد تُركت في الماضي، على الرغم من إحياء هذه الممارسات القديمة على أمل استرداد الأردن إلى الاكتفاء الذاتي والاستقلال4

يعتبر الأردن مرآة واضحة لسياسته الخارجية، ولديه ما يحتاجه داخل الأمة ولكنه مضطر إلى الاعتماد على المصادر الخارجية والأمم الأخرى من أجل بقائه.

لكن تيتا الأردنية، تعتمد فقط على نفسها وعلى اللّٰه من أجل بقائها. عندما توفي جدي بعد أشهر فقط من مجيئها إلى أمريكا، كانت تيتا في الثلاثينيات من عمرها وكان لديها أربعة أطفال. تعهدت بعدم الزواج مرة أخرى. هي متزوجة من اللّٰه الآن.

على كلّ حال كانت هي التي ضمدت رأس جندي بقماش الكنبة عندما أطلق عليه النار على سطح داره في الأردن، وهي التي ربّت أربعة أطفال كأرملة شابة في بلد أجنبي بالكاد تتقن لغته. لدى عائلتي مزحة مفادها أن تيتا تعتقد أن الرجال يتفوقون على النساء، لكنها متفوقة على جميع الرجال. كانت تدير المنزل، وتدير محل الجزارة، وتدير مطعماً، وتدير شركة خياطة وتصليح ملابس، وتدير عائلتنا. كانت تيتا معيلة الأسرة أو كما يقال (جالبة الخبز) بقدر ما كانت صانعة الخبز. ربما عانت العائلة للحصول على ما يكفي، لكن الخبز كان موجوداً على الدوم. 

الخبز كان علامة تيتا المميزة حتى في أمريكا — “شكراً” لزميل اعتنى بمتجرها خلال استراحة الحمام أو عندما كانت تركض للتحقق من أعمال الخياطة في الطابق العلوي. أمّا مهمة حراسة المتجر فلا يحظى بها إلا زبون مفضل أو جار ودود، يكون محط المديح خلال وجبة مع أطفال العائلة. انطلاقاً من الحصن، التي اشتهرت بالقمح، والأردن، الذي كان حتى الستينيات مكتفياً ذاتياً بنسبة 200 ٪ من القمح الكامل، كان حقّ تيتا المكتسب هو خبز الخبز وإطعامه.

في السنوات الأخيرة، صنعت أنا وأمي سويّاً خبز عيد الفصح الخاص بنا – تقليد عريق يقوم على صنع الخبز ومشاركته مع الضيوف الذين يقومون بجولات إلى منازل بعضهم البعض ويتمنون عيد فصح سعيد بينما نقيّم خبزهم بشكل سري. قبل أن تنتقل تيتا إلى إنديانا، كانت تقول إن هذا هو وقتها المفضل في العام: كانت هي وجدّي يزوران القدس ورام اللّٰه وأريحا لرؤية أصدقائهما وأبناء عمومتهما، وكانت تتحدث دائماً عن هذه الذكريات بمودّة. كان ذاك الوقت الذي لا يزال فيه الناس قادرين على السفر بحرية من وإلى فلسطين، هذا التنقل الذي أصبح الآن مستحيلاً تحت الاحتلال. 

نعجن العجين، بانتظار أن تتلون باللون الأصفر من الكركم، تتخمر مع اليانسون وبذور حبة البركة. تبتسم ماما، وتستمتع بملمس العجين بين أصابعها وبشعور صناعة شيء مغذي من حفنة من المكونات. يقاطعنا بابا للتأكد من أننا نكرم بإضافة زيت الزيتون، الذي نصبّه من زجاجة زيت جلبتها صديقة أمّي مباشرة من نابلس. تمزج أمي المكونات بيديها، ثم أختم الخبز باستخدام قالب خشبي عربي تقليدي مع منحوتات معقدة قبل تسليمه إلى بابا لخبزه وتشويحه سريعاً في المقلاة. إنّ خط التجميع لدينا لم يكن به أي شائبة؛ نضحك ونستمع إلى فيروز ونأخذ عينات ونقارن بين أفواج الخبيز المختلفة، مع التأكد من وضع الأطباق جانباً لتقسيمها بين ما سيذهب الى الأصدقاء والعائلة وما سيذهب للثلّاجة. معاً نصنع هذا الخبز القديم، خبز يؤكل من جيل إلى جيل، من أرض إلى أرض، ومن حرب إلى حرب – خبز شهد ولادة الأديان واستنزاف الأمم.

تريني أمي بفخر قالباً آخر لديها للمعمول، أصغر بكثير بالمقارنة، قد احتفظت به لسنوات. وتقول إن المعمول يمثل إسفنجة الخل التي أعطيت ليسوع لإرواء عطشه في الجلجلة وإن كعك العجوة كان من المفترض أن يمثل تاج الشوك. منذ ذلك الحين، أصبح المسيحيون/ات والمسلمون/ات يصنعون ويأكلون المعمول على حد سواء، كتقليد للاحتفال بنهاية الصيام لكل من الصوم الكبير ورمضان. إنه يرمز إلى موسم جديد من بركات اللّٰه. ولكن يبدو أن المنطقة في حالة دائمة من انتظار نهاية الصوم – فهم يتوقعون حلوينة لصبرهم/ن ونهاية الزهد. ونهاية كل انتظار.

تصنع تيتا خبزها الشهير، الناعم والرقيق، والشريك الحميم للحمّص واللبنة على حد سواء، على أمل أن يتجمع أطفالها وأطفالهم/ن في منزلها. ومع وجود شقيقين على خلاف، تتحدث تيتا عن لم الشمل كمعجزة، وتتحدث عن المعجزات كشيء يتجاوز الكتاب المقدس.  تتحدث عن المعجزات مثل زيارات طيف جدي أو عن نساء قديسات يتحدثن بطلاقة لغات لم يتحدثن بها من قبل/ ريثما تنتظر معجزة المصالحة في عائلتنا – هذا الانتظار هو صوم طويل تأمل في الاحتفال به مع خبزها الشهير وسط المائدة.

أومأت تيتا برأسها بجدية، “لا تزال هناك معجزات… معجزات حتى الآن. معجزات… “، تقول وهي تنظر بعيدًا، “[…] حتى نتمكن من إحضار أطفالنا إلى هنا، وتربية أسرة، وإبقاء البيت مفتوحاً والترحيب بالجميع طوال هذه السنوات… حتى يتمكن أطفالي من تأسيس عائلاتهم/ن الخاصة… هذه معجزات. الحب دون قيد أو شرط، دون توقع… معجزة “. قد تكسر لي نصف رغيف خبز وتقدم النصف الآخر لأخي قبل تقسيم الباقي بين أبناء وبنات عمي وأمهاتهم وآبائهم وضيوف غير متوقّعون ولا مدعوون ولكنهم كانوا موضع ترحيب. تماماً كالسمك وأرغفة الخبز، تكاثرنا، وحتى هذا – وربما هذا على وجه الخصوص – هو أيضاً معجزة.

  1. كورتيس ريان، “السلام والخبز وأعمال الشغب: الأردن وصندوق النقد الدولي” (أكتوبر 1998)
  2. كورتيس ريان، “السلام والخبز وأعمال الشغب: الأردن وصندوق النقد الدولي” (أكتوبر 1998) 
  3. ويل دونهام، “أقدم خبز في العالم تم العثور عليه في موقع ما قبل التاريخ في الأردن”، Reuters.com (16 يوليو 2018)
  4. كشيتيجا مرثيونجايا، “البركة تعيد نعمة الخبز في الأردن”، العفن، (10 أكتوبر 2022)

_

عن بصريات سما بيضون

أنا آخر جيل من سلالة نساء أنجبن ابنة وهن في سن العشرين. اليوم، نحن أربعة أجيال من النساء القويات اللواتي يشكلن نظام أمومة في بيئة صعبة للغاية.
في وسط من التغيير المستمر، هناك ثابت وحيد، تلك النساء دائماً ما كان لديهن لغة للتعبير عن مشاعرهن: الطعام.

“اللغة الأمّ” هو بداية تحرّي بصري يتتبع ما نتركه وراءنا للأجيال القادمة. يتبع هذا العمل مرحلة مختلفة من البلد كما اختبرتها كل من النساء في حياتي. من خلال البحث في أرشيف العائلة، أقوم بخلق رابط مع الماضي. وعن طريق الذاكرة الفوتوغرافية، أقوم بربطه بالحاضر سريع التغيير لإحدى المدن.”